في كتاب الدولة واقتصاد السوق: قراءات في سياسات الخصخصة وتجاربها العالمية والعربية، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (400 صفحة من القطع المتوسط)، يسعى الباحثان طاهر كنعان وحازم رحاحلة إلى إضاءة جوانب مختلفة من العلاقة بين الدولة والسوق، من خلال قراءات في الأدبيات الاقتصادية الحديثة، “منها تلك التي بلورت المفاهيم النظرية المحورية التي تساعد على فهمها، ومنها تلك التي رصدت التجارب التي خاضتها البلدان المختلفة في ممارسات الأشكال المتغيرة للعلاقة بين الدولة واقتصاد السوق في حقبٍ مختلفة من التاريخ الحديث لهذه البلدان وحلّلتها”.
الكتاب مؤلف من ثمانية فصول، يركز أولها “حكمانية السوق في النظرية والمفاهيم الأساسية”، على النظرية والمفاهيم الأساسية التي تكتنف حكمانية اقتصاد السوق، أي المؤسسات الاجتماعية والسياسية المشكّلة لنسق الحكم في السوق، وفي مقدمتها المؤسسات التي تنظم النشاط الاقتصادي وتُحدد حركة المواطنين الناشطين اقتصاديًا ضمن فضاءات المجتمع الثلاثة: الفضاء العامّ، وفضاء الأعمال، وفضاء المجتمع المدني. ويتناول المؤلفان تقسيم العمل بين الفضاءات الثلاثة من خلال سياسات الخصخصة في اقتصادات السوق من جهة، وسياسات العبور من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد السوق من جهة أخرى، إلى جانب مفهومَي الملكية الخاصة والملكية العامة في النظرية الاقتصادية، ومشكلة الأصيل والوكيل وتأثيرها في كفاءة الأداء في المنشآت واحتمالات تعرضها لظاهرة الفساد، ودور الدولة في الاقتصاد وسياسات الخصخصة.
في الفصل الثاني “الفضاء العام والفضاء الخاص في تجارب الدول”، يفصّل كنعان ورحاحلة علاقات تقسيم العمل بين الفضاءين العام والخاص في تجارب الدول، فيبرزان العوامل التي تحكم أداء المنشآت الإنتاجية في الفضاء العامّ، وتأثّره بالربحية في مقابل الكفاءة، وتأثّر الملكية في مقابل الإدارة. يقول الباحثان: “أثبتت التجارب العالمية أنّ نقل ملكية أو إدارة المرافق العامة إلى القطاع الخاص تتطلب قدرات تنظيميةً كبيرةً وإمكانات فنيةً متقدمةً، ومناهج محكمةً ومدروسةً بعناية قادرة على النهوض بنشاطات المرافق العامة، على النحو الذي يمكّنها من تلبية الطلب المتنامي على خدماتها، وإيجاد البيئة اللازمة للارتقاء بأدائها وفاعليتها. وواقع الحال هو أنّ تجربة خصخصة المرافق العامة لا تزال تجربةً فتيّةً قيد التطوير، ولا يزال الوقت مبكرًا للخروج بنتائج موثوقة حول مدى نجاعة أيّ من الأطر التنظيمية المنتهجة وأيها الأكثر ملاءمةً، في سياق تباين الظروف الاقتصادية والسياسية بين مختلف بلدان العالم”.
يتناول كنعان ورحاحلة في الفصل الثالث “الخصخصة في التطبيق: بلدان اقتصاد السوق” تجارب بلدان كان اقتصاد السوق هو السائد فيها أصلًا، وتطبيقات الخصخصة وأساليبها؛ بما في ذلك المحاذير التي تعتري سيرورة الخصخصة، والتراتب الزمني الذي يجب مراعاته لضبطها، ومسيرة الخصخصة في بلدان أوروبا الغربية وأميركا اللاتينية وأفريقيا وجنوب آسيا، فيمنحان الهند معالجةً تفصيليةً، وجاء في كلامهما عن التجربة الهندية قولهما: “كان مبرر الاعتماد على القطاع العام والسيطرة الحكومية على حركة التصنيع تنفيذ سياسات خاصة بإعادة توزيع الدخل، وتعويض نقص رؤوس الأموال المتاحة للقطاع الخاص، وبحجة افتقار القطاع الخاص إلى القدرات الاستثمارية أيضًا. لكن في هذه الحجة إجحاف بحق هذا القطاع الذي شهد نشوء طبقة ناشطة من رجال الأعمال في أول عهد الاستقلال. فالمبرر الحقيقي كان عدم إيمان القادة السياسيين في عهد الاستقلال بسياسة حرية السوق والتجارة ورأسمالية القطاع الخاص”.
في الفصل الرابع، وهو بعنوان “الخصخصة في التطبيق: البلدان العابرة إلى اقتصاد السوق”، يعرض المؤلفان تجارب بلدان التخطيط المركزي، ويوجزان تجارب بلدان وسط أوروبا وكومنولث الدول المستقلة التي سعت للعبور إلى اقتصاد السوق بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ويحللان بالتفصيل تجربة الصين التي نجحت في العبور إلى اقتصاد السوق بسلاسة لافتة للنظر، مقارنةً بتجارب الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية. وعن تجربة الصين، يقولان: “تمثّل الإصلاح الاقتصادي في الصين أساسًا في تحرير السوق الداخلية وإزالة القيود المفروضة على الاستيراد والتصدير، الأمر الذي أفسح في المجال أمام دخول مشروعات القطاع الخاص إلى هذه السوق، بما فيها المشروعات الممولة من الاستثمار الأجنبي. لكنّ هذا التحرير للسوق الداخلية وإطلاق المنافسة فيها لم يشكّل حافزًا كافيًا لمشروعات الدولة للولوج فيها والمشاركة في نشاطها. فلم تكن المشكلة في انخفاض كفاءة هذه المنشآت نتيجة عدم خضوعها للمنافسة فحسب، بل نتيجة أعباء سياسات معينة أثقلت كاهلها، وعلى رأسها العبء الإستراتيجي والعبء الاجتماعي”.
ويقارن كنعان ورحاحلة، في الفصل الخامس “مقارنات بين تجارب الإصلاح الاقتصادي”، بين تجارب إصلاح اقتصادي مختلفة، ابتداءً بتجربة روسيا ودول أوروبا الشرقية من جهة، وتجربة الصين من جهة أخرى، ثمّ يقارنان تجربتَي تايوان والصين من جهة، بتجربة روسيا من جهة أخرى، وأخيرًا يقارنان تجربة الصين بتجربة الهند. ويجد الباحثان فارقًا بين الخصخصة المتسرعة والتطور العضوي التدريجي. فمن خصائص إستراتيجية الخصخصة المتسرعة التخلص من الملكية العامة بأسرع ما يمكن ولو بالتهاون الشديد في شروط البيع، وعدم الاهتمام بهيكلية الملكية الجديدة للشركة المخصخصة، بل تفضيل الملكية المشتتة، وعدم الاكتراث بضبط الإدارات المالية للمشروعات المخصخصة، وعدم الاكتراث بتطوير المشروعات الخاصة من القاعدة إلى الأعلى. أمّا التطور العضوي، فمن سماته تهيئة الشروط المواتية لتطوير القطاع الخاص، بدءًا من القاعدة الدنيا نحو الأعلى والسير في خصخصة معظم شركات القطاع العام ببيعها، إلى القطاع الخاص؛ من دون التهاون بضرورة التزام العدالة بشروط البيع، والحرص على هيكلية متماسكة للمالك الجديد للشركة المخصخصة، وفرض شروط صارمة لحسن الإدارة المالية للشركة المخصخصة.
وفي الفصل السادس، وهو بعنوان “الخصخصة في التطبيق: الدول العربية”، يعرض الباحثان تجارب الخصخصة وتطبيقاتها في مصر وبلدان عربية أخرى. وبحسبهما، واجهت البلدان العربية ضغوطًا كبيرةً كي تنتهج سياسات الخصخصة. فإضافةً إلى الضغوط الداخلية المتمثلة أساسًا بتزايد الأعباء المترتبة على الحكومات من جراء تنامي دورها في الحياة الاقتصادية وضعف قدرات الدولة على إدارة المنشآت الحكومية بكفاءة وفاعلية، كانت الضغوط الخارجية شديدة الوطأة، ولا سيما في البلدان التي تعرضت لأزمات اقتصادية، بسبب اضطراب سياساتها الاقتصادية الكلّية، ما أدخلها في دورات من عجز الموازنة العامة وعجز ميزان المدفوعات، وورّطها في مستويات عالية من المديونية والعوز إلى المعونات الخارجية، وإلى اللجوء إلى مؤسسات التمويل الدولية في واشنطن. ويلفت الباحثان الانتباه إلى افتراق مهمّ في السياسات الاقتصادية بين دول عربية بقيت خاضعةً لدول الغرب الرأسمالية من جهة، ودول عربية انضمت إلى مجموعة دول عدم الانحياز، وإلى أنّ الأولى التزمت اقتصاد السوق، في حين غلب على الثانية إستراتيجية التنمية المتأثرة بالأيديولوجيا الاشتراكية.
يخصص كنعان ورحاحلة الفصل السابع، وهو بعنوان “الخصخصة في التطبيق: التجربة الأردنية”، لعرض تجربة الأردن في الخصخصة وتقويم معمق لإيجابيات هذه التجربة وسلبياتها. وفي هذا السياق يقولان “شابَ تنفيذ عمليات الخصخصة، بما فيها تلك التي أفضت إلى استقطاب شركاء إستراتيجيّين، عدد من المشكلات والثغرات المنهجية شملت في بعض الحالات التأثير سلبًا في العوائد المالية لخزينة الدولة، وأحدثت في حالات أخرى اختلالات مؤسسيةً وتنظيميةً في الأنشطة التي شملتها”. ويلاحظ الباحثان أنّ من المفارقات اللافتة للانتباه، في التجربة الأردنية، انحراف الإجراءات التنفيذية لعمليات الخصخصة عن مساراتها الطبيعية، مع تقدم التجربة ونضوجها وتراكم الخبرات والقدرات الفنية عند منفّذيها.
يختتم كنعان ورحاحلة كتابهما بفصل ثامنٍ وأخير بعنوان “المهمات التنموية للدولة والتحكم بالسوق بالسياسة الصناعية”، يكرسانه للبحث في دور التحكم بالسوق، بهدف إنجاز المهمات التنموية للدولة. ويمكن القول إنّ هذا الفصل بمنزلة الخلاصة. وفي هذا الفصل يقولان: “للتعاون المقترح بين الحكومات والخواص محاذيره، إذ من الضروري أن يحافظ القطاع العامّ على مستوى رفيع من الاستقلالية عن المصالح الخاصة. لكن يجب ألّا تعني هذه الاستقلالية الضرورية العزلة عن التواصل المنضبط مع القطاع الخاص للحصول على المعلومات المتاحة له دون غيره؛ لذلك تقتضي الحنكة السياساتية أن يكون ثمة انسياب مستمر من المعلومات من القطاع الخاص إلى المسؤولين الحكوميين، وأن تحتوي هذه المعلومات على المحددات والتحديات التي تعانيها السوق، وأن تحتوي أيضًا على الفرص الإنتاجية المتاحة في القطاع”.