في كتابه السلطة والمجتمع والعمل السياسي العربي أواخر العهد العثماني: وسائط السلطة في بلاد الشام، كان هدف وجيه كوثراني تبيان سمات السلطنة العثمانية وخصائص مجتمعها التقليدي، من خلال دراسة مفهوم الدولة السلطانية في التاريخ الإسلامي، ومدخل مفاهيمي لمعالجة إشكاليات ترتبت على التقاطع بين صيغة الالتزام في النظام العثماني القديم والإدارة العثمانية الجديدة التي اعتمدت على تنظيمات الجديدة، وعلى التداخل والتمايز بين نظام الملل والامتيازات الأجنبية، وأثر ذلك في المجتمع، وكذلك على العمل السياسي العربي الحديث من خلال تقاطعه مع الإستراتيجيات الغربية قبل الحرب العالمية الأولى. فهذا كله، بحسب كوثراني، شكّل حالة تاريخية مأزقية في تحوّلات السلطة والمجتمع، يحاول تفسيرها من خلال تكوّن وسائط السلطة بين الأطراف والمركز، وبين القديم والجديد.
المسألة ومصادرها
يتألف هذا الكتاب، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (352 صفحة، موثقًا ومفهرسًا)، من مدخل وأربعة فصول وخاتمة. في مدخله، وهو بعنوان “المسألة والمصادر والمصطلح والمنهج”، يتناول كوثراني المسألة قيد الدراسة ومصادرها ومصطلحاتها ومناهج البحث فيها. ويقول: “إن ثمة استخدامات شتى لتعبير سوريا، تصادفنا في الوثائق العائدة إلى المرحلة التاريخية التي ندرس؛ فهي تعني امتدادًا جغرافيًا يضيق أو يتسع تبعًا لوجهة النظر التي تحملها الوثيقة، وذلك في مرحلة دقيقة كان يجري فيها تطارح مشروعات تقسيم السلطنة العثمانية، ودرس مصير سوريا انطلاقًا من اعتبارات عدة: مصالح الدول الغربية من جهة، واتجاهات القوى السياسية المحلية من جهة ثانية”. ويضيف كوثراني: “لمّا كان تعبير سوريا قد عنى آنذاك صيغًا جغرافية وسياسية عديدة، ربما تختلف في الحدود والامتداد ومشروع الدولة وشكلها، كان الحرص على استخدام التعبير بالمعنى الذي ورد في نص الوثيقة أو المرجع”، وبقي همّ كوثراني الأساس في البحث متابعة مظاهر العمل السياسي نماذجَ لواقعات وأمثلةً بارزة من الخطاب السياسي في مرحلتَي الإصلاح العثماني والبحث عن البدائل.
وسائط السلطة
في الفصل الأول، “الدولة العثمانية قبل التنظيمات: مؤسسات التاريخ الإسلامي ووسائط السلطة بين المجتمع وأهل الدولة”، يتناول كوثراني التبرير الفقهي للدولة – العصبية في التاريخ الإسلامي، والمؤسسة الدينية بين الدولة والمجتمع، والتنظيم الحِرفي وطرق الصوفية، والإقطاع العسكري ودوره الوظيفي بوصفه سلطة بين المجتمع والدولة، والعصبيات والسلطات المحلية، والمِلل غير الإسلامية وبدايات الوعي القومي، ومسألة الاستقلال الوطني.
يرى المؤلف أن الدولة في التاريخ الإسلامي استقرت على مفاهيم ومؤسسات وأعراف وسلوكات تناولت الدولة العثمانية؛ فمؤسسة السلطنة التي تقوم مقام الخلافة وتنوب عنها في بعض المهمّات هي نفسها المؤسسة العثمانية التي ورثت المؤسسة السلجوقية في آسيا الصغرى. أما الأسس التي انبنت عليها الدولة فتوزعت بين محور الشريعة (المبرر الشرعي لقيام الدولة) ومحور العصبية (وسيلة الوصول إلى المُلْك). وأما العساكر، فيقول كوثراني إنهم صاروا جزءًا من سلطة محلية تمارَس على قواعد نظام الالتزام وعلى قواعد الأعراف المحلية التي ترتكز عليها العصبيات القائمة، و”التي تتجلى بشكل أساس بالمعطيات العائلية والقبلية والمِللية والمذهبية التي يتشكّل منها التركيب السكاني لبلاد الشام”.
التنظيمات والسلطة
في الفصل الثاني، “دولة التنظيمات وأنماط السلطة”، يبيّن كوثراني أهداف التنظيمات، ويقارن الإدارة الجديدة بالنظام القديم، فيقول إن الهم الأول للإصلاحات العثمانية والأفكار التي رافقتها إيجاد حل للتقهقر العسكري الذي أصاب المؤسسات العسكرية العثمانية، والتي حلّ محلها نظام الالتزام، والإنكشارية القائمة على التربية الدينية – العسكرية المغلقة في وجه أولاد النصارى، و”التي أخذت مع مطلع القرن السابع عشر تنفتح لأبناء الأهالي من فلاحين وحرفيين”، فأصبحت جزءًا من صراعات المجتمع الأهلي ومشكلاته. وبحسبه، تشير قراءة خط كلخانة (1839) والخط الهمايوني (1856) بخصوص الإصلاحات إلى أن الهم الأساس كان “الرغبة في إلغاء نظام الالتزامات، نظرًا إلى ما جرّ هذا النظام على الخزينة وعلى الفلاحين معًا من إفقار ومظالم، وهو الرغبة أيضًا في إنشاء إدارة وقضاء يستوعبان التنوع المِلي على قاعدة المساواة الحقوقية بين المِلل في الإدارة والقضاء والجيش والتعليم، وعلى قاعدة التوفيق بين مصالح المِلة والوطن في إطار التبعية العثمانية الواحدة التي جاءت في صياغة التنظيمات تمثلًا لمفهوم الناسيوناليتي في الدولة الغربية الحديثة، مع الإبقاء على الامتيازات القديمة التي أعطيت للمِلل غير الإسلامية”.
كما يتناول المؤلف العلاقات بين سلطة المدينة والريف بناءً على أمثلة من واقع العلويين والدروز والبدو، فيقول إن “تاريخ هاتين الطائفتين في جبال النصيرية وجبل حوران يكاد يكون تاريخ سلسلة من أشكال المقاومة ضد التدخل العثماني المتمثل في إصرار الولاة العثمانيين على إلحاق هذه المناطق ضمن نطاق الالتزام الضرائبي، الذي كان يقوم به غالبًا مرابو المدن وتجارها، وفي مرحلة التنظيمات ضد سيطرة الإدارة الجديدة التي حملت إلى السلطة الفئات الاجتماعية نفسها، والتي حاولت أن تلحق بها المناطق الممانعة إلحاقًا مباشرًا بمعزل عن دور الوسطاء المحليين، وبمعزل عن إجراء أي إصلاح أساسي قادر على الجذب والإرضاء”.
العمل السياسي الحديث
في الفصل الثالث، “بدايات العمل السياسي الحديث في ظل التنظيمات والسلطان الفردي”، يبحث كوثراني في الأوضاع الدولية لنزعتَي الاستبداد والمعارضة في الدولة العثمانية، فالتوازن الدولي على قاعدة التسوية بين السياستين الفرنسية والبريطانية المتنافستين عدّلته عوامل جديدة، أطلقت العنان للدول الكبرى لتدخل في سباق محموم نحو السيطرة والإلحاق واقتطاع مناطق النفوذ في العالم؛ فـ “فتح قناة السويس والآفاق الاقتصادية والإستراتيجية التي سمح بها أمام أوروبا لربط مستعمراتها الأفريقية والآسيوية، وتضخم الدين العثماني، وخضوع الدولة خضوعًا تامًا للأخطبوط المالي لمؤسسات أوروبا المصرفية، ثم بروز ألمانيا دولة موحدة قوية ومنافسة على المسرح الدولي، كلُّ ذلك شكّل أوضاعًا جديدة لولادة إستراتيجيات أوروبية جديدة تجاه الدولة العثمانية”.
كما يدرس مقولة الوطن السوري من بيروت – ظاهرة المنشورات؛ فبيروت شهدت في 1880-1881 دعوة سرية عنيفة للثورة على الأتراك، وظهرت منشورات بلا توقيع، كُتبت بخط اليد وعُلّقت على جدران بيروت وصيدا ودمشق، تضمّنت مفاهيم سياسية جديدة تُبرز فكرة الوطن السوري على نحوٍ موازٍ لما طرحه العثمانيون الجدد عن فكرة الوطن العثماني.
يتناول كوثراني فكرة الاستقلال السوري وصداه في تقارير القنصل الفرنسي في بيروت، ومسألة السياسة في النشاط الثقافي: حركة المجتهدين في دمشق، وأشكال العمل السياسي في الخارج (أوروبا – مصر) واتجاهاته، فيجد أن العمل المشترك التركي – العربي المناهض لأسلوب السلطان عبد الحميد في الحكم كان العمل السياسي السائد خارج بلاد الشام والولايات الأخرى، أما في الداخل، فـ “ثمة نزعة عميقة كانت تحرك معظم النخب الثقافية مهما كانت انتماءاتها الملية نحو العودة إلى الدستور، وإطلاق الحريات السياسية وإصلاح الإدارات المحلية في ظل التنظيمات”.
إصلاح واستقلال
في الفصل الرابع، “نزعة الإصلاح والاستقلال في العمل السياسي في العهد الدستوري: السياقان المحلي والدولي، 1908-1914″، يتناول كوثراني بالبحث حركة الإصلاح في ولاية بيروت، والمؤتمر العربي الأول (1913)، والسياسات الدولية تجاه العمل السياسي المحلي (سوريا والموقف الفرنسي)، واستنتاجات من نظام الولايات في مرحلة التنظيمات في عام 1864 إلى نظام الولايات الجديد في العهد الدستوري عام 1913.
يلاحظ كوثراني في التوجه ذي النزعة الاستقلالية التي تتجه اتجاهًا وطنيًا – إقليميًا بصيغة سورية، سمتين: الأولى أن أصحاب هذا الصوت هم من رجال الأعمال والمثقفين المسيحيين في ولاية بيروت التي فُصلت عن ولاية سورية في عام 1888، وهم من أصدقاء فرنسا الذين يقيمون في باريس، والذين تواصلوا مع بعض الأوساط الاقتصادية والدبلوماسية الفرنسية؛ والثانية، ارتفاع هذا الصوت في الخارج، وفي باريس تحديدًا، حيث يتيح جوها الفكري وبُعدهم عن ضغط الاتحاديين، الذين باشروا دعايتهم الانتخابية في أنحاء المدن السورية، نزوعًا نحو الاستقلال الوطني والجهر بالنزعات المضمرة منذ أيام السلطان عبد الحميد.
ويختم الفصل مسلطًا الضوء على الصورة المعقدة لمرحلة الانتقال من العثمانية إلى الدولة الجديدة؛ “صورة ينفجر فيها الوضع الدولي في حرب كبرى، وتختلط فيها البرامج المطلبية المحلية، وترتبك المقاومة الشعبية، ويتموّه مشروع السيطرة الغربية بصيغ وشعارات. فالبرنامج المحلي ليس واحدًا، والمقاومة الشعبية ترتكز على معطيات أهلية واجتماعية صلبة، لكن يمكن اختراقها من خلال الإحساس بالفارق بين المعاناة حيال القمع التركي المركزي الأخير والأمل بتأسيس دولة جديد تغذيه وعود الدول الكبرى في مناطق نفوذها”.
من المأزق إلى التعددية
في خاتمة الكتاب، وعنوانها “من مأزق المشروع العثماني إلى تعدّدية السلطات ومشروعات الدول”، يقول المؤلف إن ما يراه العقل الإستراتيجي الغربي ثوابت شرقية أو خصائص دائمة للاجتماع العربي – الإسلامي، لا يعدو حالةً من حالات التفكك التي آل إليها الاجتماع الإسلامي – العثماني في مرحلة انحطاطه ومرحلة اختراقه الغربي؛ فـ “كما أن معطى التجمعات الإثنية والمِلية الذي برز بشكل حاد في مرحلة التنظيمات العثمانية، قدّم إلى الإستراتيجيا الغربية تبريرًا لحل ما سُمّي العقلية الفوضوية عبر تأطير هذه التجمعات في دول، فإن سياسة الأعيان التي استثمرت بدورها قوانين التنظيمات لمصلحتها في المحاكم والبلديات والقضاء ومختلف الوظائف، قدّمت هي الأخرى معطى عظيم الفائدة للسياسة الفرنسية لتشكيل واجهات سياسية محلية، بل إن التجمعات الإثنية وسياسات الأعيان كان تتقاطع لتولّد مواقع سلطوية تبحث عن تأكيد شرعيتها الجغرافية – السياسية في استعارة مفهوم الدولة الوطنية”.