صدر عن سلسلة “ترجمان” في المركز العربي للأبحاث ودراسة الياسات كتاب ما الليبرالية؟ الأخلاق، السياسة، المجتمع، وهو ترجمة سناء الصاروط العربية لكتاب كاترين أودار بالفرنسيةQu’ est-ce que le liberalisme? Éthique, politique, société. يرسمُ الكتاب تاريخ الليبرالية، من خلال التفكير النظري في مستقبل التضامن، والتعدّدية الثقافية، وتجديد الديمقراطية. ويبحث في كيفية تصوّر الفكر الليبرالي المعاصر للوطنية، وإعادة صوغه من دون الانجراف نحو صيغة مغلقة للوطن، بطريقة لاشعبوية من خلال ابتكار أنماط جديدة من النقاشات العامة. ويرى أن الليبرالية فرضت نفسها، بدءًا من القرن السابع عشر، بصفتها عقيدة الحرية الفردية والتسامح والحق في الملكية؛ حيث تدعو، في مواجهة الاستبداد المَلَكي، إلى ازدهار حيّز اجتماعي بمعزل عن سطوة الدولة، وهو ما يُعرف بـالمجتمع المدني.
يتألف الكتاب (680 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من 10 فصول وخاتمة.
سيادة الفرد
في الفصل الأول، “سيادة الفرد”، تتناول أودار الفرد بصفته مفهومًا خاضعًا للنقاش أساسًا، والفردانية من حيث هي مرض يصيب الليبرالية؛ إذ تقول إن الجريمة الأولى لليبرالية الكلاسيكية، في أعين مناهضيها من اليمين أو اليسار، هي أنها فردانية. لكن بعيدًا من تحليل المفهوم، يعني الجميع بذلك الأنانية التي تميّز المجتمع الرأسمالي الحديث، بحيث تصبح الكلمتان قابلتين للتبادل ويلحقهما الاتهام ذاته. كما تتناول مفاهيم جديدة منها الفرد بصفته قوة، والكالفِنية وسلطة الضمير الفردي، وسيادة الفرد والبروتو – ليبرالية لجون لوك، ومسألة الفرد السيد، والتسامح والتعددية الدينية، والأنثروبولوجيا الأخلاقية لليبرالية. وتنهي المؤلفة الفصل بالكلام عن مشكلات للفلسفة الليبرالية، من قبيل مشكلة التعاون بين أفراد أسياد وبين القواعد الأخلاقية للوفاق السياسي، والحد من تأثير المشاعر السلبية، كالضغينة التي تغذيها اللامساواة الاجتماعية الناتجة من لامساواة المواهب والقدرات بين الأفراد، في حين تتغذى هذه المشاعر الفردية في الفكر الاشتراكي أو الماركسي من تركيبات السلطة.
حرية الحديثين
وترى أودار في الفصل الثاني، “حرية الحديثين”، أن من العبث القول إن الليبرالية أنتجت المجتمع الحديث، “لكن من المؤكد أن هناك رابطًا ضيقًا بين طروحاتها وبين التحولات الفكرية والسياسية والاجتماعية، وأن سيرورة التحول سوف تؤدي إلى استقلالية الحقل الاقتصادي بالنسبة إلى النشاطات البشرية الأخرى، بدءًا من القرن الثامن عشر في إنكلترا ولاحقًا في القارة الأوروبية، إلى الثورة الصناعية الأولى ثم إلى الاضطرابات التي لازمتها، في حين أنه في العالم القديم كان الحقل العام بكامله تحت سيطرة السلطة السياسية”. وتبحث أودار في مفهوم الهوى التعويضي الذي يصفه ألبرت هيرشمان بأنه “فكرة مقاومة الهوى بالهوى”، ومؤداها إنشاء نظام اجتماعي حر ومن دون سيطرة، تستطيع فيه المصالح الخاصة أن تصبح محايدة وتتوازن ذاتيًّا. وتنظر المؤلفة في الثورة المنفعية، فتقول إن مبدأ المنفعة ليس تعميمًا للأنانية، بل محرك للفعل المنطقي وهدف لكل مجتمع عادل وصالح. وتتناول ليبرالية السعادة، وازدهار المجتمع المدني وانتصار السوق، وحدود الليبرالية.
دولة القانون
في الفصل الثالث، “دولة القانون”، تقول أودار إن الحداثة السياسية ترتكز على نقل السيادة من الحاكم إلى الأفراد الذين سيصبحون أسيادًا، ولا يعودون ملكية لمولى لهم، ذلك هو المعنى السياسي وليس الفلسفي فحسب لعبارة “سيادة الفرد”. وكانت النتيجة السياسية لذلك أنه لا يحق لأي شخص أن يحكم الآخرين، سواء بحق طبيعي أو إلهي، وأن كل حكم مصطنعٌ وموضوع من الأفراد المعنيين بذلك، فإما أن يمارس هؤلاء السيادة الشعبية التي تَستبدل في الحقيقة مبدأَ الملكية الحاكمة بالمبدأ الشعبي، وإما أن تمرّ هذه السيادة الجماعية بوساطة دستور ومبادئ متفق عليها من الجميع؛ ما ينظّم ممارسة السلطة، وهذا هو الحل عند الليبرالية الدستورية التي تضع ثقتها في القوانين والمؤسسات لفضّ المشكلة المزدوجة، وهي المواجهة بين الحريات الفردية وعنف الدولة الكامن. وترى المؤلفة أن فهم الليبرالية هو فهم كيف تكوّن الحل للدولة الليبرالية، دولة القانون، الخاضعة للقوانين والقادرة على المصالحة بين الحريات الفردية بفضل سلطة القانون، والمضمونة بالدستور وبمعايير ميتا – قانونية يرضى الجميع بالخضوع لها. ويجب أن يوضع نقد الليبرالية على هذا الميدان، بإظهار عدم كفاية المؤسسات السياسية في حل المشكلات التي يخلقها العنف الاجتماعي. في المقابل، وفي نهاية القرن السابع عشر هذه، كان الخطر الأكثر بروزًا للعيان هو خطر السلطة السياسية، وسوف تتوجه جهود المفكرين الليبراليين كلهم نحو صوغ مؤسسات الحرية. ففي نظرها الحل المؤسساتي لدولة القانون يفترض في الوقت ذاته تحولًا في مفهوم الحرية. وهنا، لا تملك الحرية البشرية معنى وقيمة إلا في إطار القانون، وخارج هذا الإطار لا تكون إلا حدثًا وقدرة على الفعل، وليس لها أي حق.
الليبرالية الاجتماعية الجديدة
في الفصل الرابع، “الفرد والمجتمع: الليبرالية الاجتماعية الجديدة”، ترى أودار أنه إذا فقدت الليبرالية مكانها السياسي، فإنها سوف تعيد ابتكار ذاتها بطريقة مدهشة، بصفتها حركة أفكار جديدة، وليبرالية اجتماعية منافسة للاشتراكية وقادرة على التأثير فيها، فتحاول تاليًا دراسة هذا الأنموذج لليبرالية، والتقاط قدرته على التحول، والمرونة التطورية والتسامح البنيوي، بحسب تعابير مايكل فريدن. وتعتقد المؤلفة أن الليبرالية الجديدة جدّدت المبادئ المؤسسة لليبرالية الكلاسيكية، وصنعت تحولًا مزدوجًا: مصالحة الفرد والمجتمع، لأنه من الواضح أن المجتمع هو الذي يعطي وسائل الحرية الفردية والتطور الذاتي؛ ومصالحة المجتمع والفرد، لأن نمو المجتمع وتطوره يخضعان للمواهب الفردية. لكن المواهب الفردية ليست منحة من المجتمع، ولا تصبح مصدر ثروة للجميع، إلا في إطار ديمقراطي.
الثورة النيوليبرالية
في الفصل الخامس، “الثورة النيوليبرالية”، تقول أودار إن الثورة النيوليبرالية، التي غذتها فترة الحرب الباردة عبر الوقوف في وجه توتاليتاريات اليسار واليمين، شكلت تجذيرًا للفكر الليبرالي الذي يصعب فهمه خارج هذا الإطار، منبهةً العالم الحر إلى أن الاقتصاد الموجَه وتدخل الدولة في سيرورة السوق ودولة الرعاية يمثلان طريقًا إلى العبودية، وخطرًا على الحرية، ويحضران للاعتداء على حقوق الإنسان. وتتناول المؤلفة في هذا الفصل أيضًا تشتت الليبرالية الكلاسيكية، وانتصار السياسات النيوليبرالية، وثغرات الليبرالية الجديدة مثل القصور الديمقراطي في دولة الرعاية الإلهية والقصور في العدالة الاجتماعية والقصور الأخلاقي وفشل الكينزية والشكوكية والتشاؤم وتعددية القيم، وليبرالية اليمين، والليبرالية المتطرفة.
ليبرالية رولز الديمقراطية
في الفصل السادس، “الليبرالية الديمقراطية عند جون رولز”، تبحث أودار في الفشل المزدوج لليبرالية الجديدة بحسب رولز، فليست ديمقراطية الليبرالية الجديدة إلا ديمقراطية السوق، مهتمة قبل كل شيء بالفاعلية الاقتصادية أو ديمقراطية رأي يستعبدها آخر استقصاء للرأي العام. ولتفسير تأثير رولز في الثقافة القانونية الأميركية، تستعيد المؤلفة رونالد دوركن الذي قال: “في الولايات المتحدة يجب على القضاة أن يتركوا للسوق تقرير ما تطلبه العدالة. ويؤكد الرأي المسيطر أن على نوع من ديمقراطية السوق أن يأخذ القرارات، أي إن على وجهة النظر التي هي الأكثر شعبية في وقت ما أو في وقت آخر عند الرأي العام أن تكون هي التي يتبناها القضاة”. من هنا جاءت ملاحظة رولز: “إذا حصل بعض الناس على لذة ما حين يمارسون التمييز بينهم […] يجب عندئذٍ إعطاء هذا الإرضاء للرغبات وزنًا يتناسب مع قوة هذه الرغبات”. لم تكن الليبرالية الجديدة بعيدة من النضال ضد اللامساواة. من المؤكد أن دولة الرفاه كانت سياسة ترمي إلى الحد من الفقر، ولكن أيضًا إلى حماية عمل السوق عبر الاستهلاك، وليس فقط باسم العدالة الاجتماعية. هذا بالذات ما سوف يُغيره رولز، مستوحيًا ذلك من نقده الرفاهوية ومجتمع الاستهلاك. ويجب استبدال الرفاهوية بمفهوم “العدالة كإنصاف” الذي يناضل ضد اللامساواة غير العادلة ويرضى فقط باللامساواة الضرورية لتحسين وضع الكل، وبخاصة وضع الأشدّ حرمانًا.
إحياء التضامن الوطني والعالمي
في الفصل السابع، “إعادة بناء التضامن الوطني والعالمي”، تقول أودار إن الطموح المعلن للثورة النيوليبرالية كان إنهاء دولة الرعاية والحِمل الذي فرضته على القوى المنتجة من دون حق، وإنهاء الأوهام التي كانت تحرك السياسات الاقتصادية التدخلية. هاجم اليسار دولة الرعاية لأنها لم تكن ترمي إلا إلى تأمين مستوى حياة حد أدنى لضمان نمو الاستهلاك لا التضامن واندماج المواطنين الأشد فقرًا، وهي تركت على نحوٍ خاص مبدأ المساعفة ينمو، وكذلك طبقة من المستبعدين الذين فقدوا كل أمل وكل قدرة على الاندماج. تبحث المؤلفة هنا في أزمة التضامن في سياق النيوليبرالية، أي الرأسمالية الجديدة، وأزمة دولة الرعاية. ثم تتناول كيف تحمّل المفكرون الليبراليون مسؤولية مهمة إعادة بناء مواطنة جديدة باعتبارها قاعدةً لمدخول الحد الأدنى للمواطن. لكن مسألة الاعتراف والاستبعاد فرضت تغيير مفهوم المدخول الاجتماعي، وإدخال اعتبارات أخلاقية جديدة في السياسات الاجتماعية. وتختم الفصل ببعض الميادين المتعلقة بالتغييرات الحاصلة في مفهوم التضامن العالمي.
تحديات التعددية الثقافية
في الفصل الثامن، “مساواة واختلافات: تحديات التعددية الثقافية”، تقول أودار إن الديمقراطيات، الأمم المدنية المرتكزة على عقد سياسي بين المواطنين وليس على علاقات الدم، كما في الأمم الإثنية، تحتاج إلى أن تكوِّن وفاقًا سياسيًّا، ولو محدودًا، فالحاجة إذًا إلى الدولة – الأمة كي يجعلوا مبادئ التضامن الاجتماعي وإعادة التوزيع مقبولة، والتي من دونها لا يمكن التماسك السياسي أن يرى النور. ويتم ذلك وفقًا لشرطين: الأول، على الدولة – الأمة الليبرالية أن تبقى محايدة تجاه الثقافات المتعددة والجماعات الماتحت قومية الموجودة، وأن تمنع سيطرتها على الساحة العامة، وذلك لحماية حرية كل واحد؛ والثاني، على الدولة – الأمة الليبرالية ألا تستعمل القوة لفرض اللحمة أو الوحدة الوطنية، على عكس الدول السلطوية، بل عليها استعمال السلاح السلمي، سلاح الثقافة بمعناه الأوسع، وتشجيع وتنمية تعاطف خاص بين الأفراد ذوي القومية الواحدة.
وترى المؤلفة أن التعددية الثقافية تعود إلى ثلاثة عناصر مختلفة في التحليل: الأول، حدث اجتماعي؛ والثاني، تعبير عن معيارية سياسية ميزت الحركات الاجتماعية الجديدة في الثمانينيات التي اعتبرت أن الاختلاف الثقافي أو الإثني أو الديني أو الجنسي يصبح قيمة اجتماعية وسياسية إيجابية، وهي في ذلك تعارض عالمية فلسفة عصر الأنوار؛ والثالث، تمييز سياسات اجتماعية تطمح إلى دمج أفضل للمهاجرين والأقليات الإثنية والثقافية، وذلك من خلال مؤسسات وحقوق جديدة، ثقافية وجماعية، كذلك من خلال سياسات جديدة مثل التمييز الإيجابي.
فشل الدنيوة
في الفصل التاسع، “فشل الدنيوة”، تقول أودار إن الإسلام ينادي بخضوع الفرد للجماعة، وهذا لا يتطابق مع الليبرالية، ووحده الإسلام المعتدل والليبرالي يمكنه أن يندمج، ونحن حاليًّا بعيدون من ذلك. لكن هذه الظاهرة ليست الوحيدة التي تُوجد تحديًا للقيم الليبرالية، فحركة الدنيوة التي بدا أنها ترافق الحداثة وتقدُّم العلوم وفقدان النفوذ الاجتماعي للأديان على المجتمع والارتفاع العام لمستوى الحياة، هي أيضًا يتراجع نفوذها. وترى المؤلفة أن على الديانات أن تقبل بأن تتغير عند اتصالها بالمجتمعات الديمقراطية، وأن تصبح بدورها أكثر ليبرالية عبر مشاركتها الكاملة في الوفاق السياسي. وتجد الليبرالية الكلاسيكية صعوبة في فهم أن معنى الديني بالذات يختلف وفقًا للديانات، وأن المسيحية – وخصوصًا البروتستانتية الليبرالية – ليست مثالًا يمكن أن تتقيد به الديانات الأخرى.
تجديد الديمقراطية
في الفصل العاشر والأخير، “تجديد الديمقراطية: الأنموذج الجديد ’التشاوري‘”، تقول أودار إن الليبرالية تنتظر الكثير من التشاور العمومي، وتجعله يؤدي أدوارًا متنوعة جدًّا ومتناقضة حتى نستطيع أن ننتظر منه تجديدًا فعليًّا، قادرًا على منافسة الديمقراطية الانتخابية. وترى المؤلفة أن التعددية مصدر تكويني للاستقرار، وهي السمة المحددة للديمقراطيات المعاصرة كما هي موجودة حاليًّا، ويمكننا أن نصفها بحكم الأقليات؛ لأن حكم أقلية واحدة يصبح دكتاتورية. وتواجه النخبة في السلطة باستمرار معارضة وانتقادًا، ليس من الصحافة فحسب، بل من الجمعيات المستقلة كلها في المجتمع المدني التي تدور حول مراكز السلطة.
أخيرًا.. ما اللبيرالية؟
في الخاتمة، “ما اللبيرالية؟”، تقول أودار إن الليبرالية ليست عقيدة كالعقائد الأخرى، إنها عقيدة صنعها بشر أحرار في حد ذواتهم، يرفضون أن يخضعوا لضرورات أيديولوجية سلطوية، ولمفهوم تبسيطي للحتمية الاجتماعية، وأن يضعوا أنفسهم في خدمة الدولة، كما في القومية، التي نجد لها آثارًا في التفكير الجمهوري في فرنسا، أو في خدمة حزب، كما في حالة الفاشية والشيوعية، وحتى الاشتراكية. لا يمكن الليبرالية أن تكون بالتحديد عقيدة دوغمائية، وسيكون هذا تناقضًا في التعبير. إنها عقيدة سلبية: عقيدة مقاومة راديكالية لسلطات السيطرة وللدفاع عن الحرية والكرامة البشرية. وهي كذلك عقيدة إيجابية: تحاول أن تعيد تفسير أهدافها بلا هوادة حيث تلاؤمها مع الشروط الاجتماعية والتاريخية الجديدة، وتتصف بثباتها التكويني وفي الوقت ذاته بمرونتها التطورية لا بقدرتها على التكييف.